يتضح بالضرورة الاجتماعية وجود الحاجة إلى استحضار منهجية دقيقة وفعالة تمكننا من ترجمة مفهوم التسامح إلى صورته العملية والأداتية في مجال الممارسة التربوية، حيث يمكن لهذه المنهجية الأداتية أن توضع في خدمة الأهداف التربوية وفي متناول المعلمين المعنيين بالتربية المدنية. وإذا كان التسامح في حقيقة الأمر خاصة من خواص المجتمعات الديمقراطية فإنه يجب التفكير في المناهج العملية والوسائل الفعالة التي تسمح للمعلمين والمربين بتعليم التسامح وتأصيل قيمه ومهاراته الأساسية.
وهنا يمكن الإشارة إلى منهج تعليمي للتسامح وهو المنهج الذي اعتمد من قبل مجموعة بيرتيلسمان (leGroupe Bertelsmann pour la recherche politique) حيث خلصت هذه المجموعة عبر دراساتها في مركز البحوث السياسي في جامعة مونيك بألمانيا (Munich) إلى بناء تصور لمفهوم التسامح (Tolérance) يقوم على مبدأ الممارسة الواقعية في مجال العمل التربوي ويؤسس أداة عملية لتأصيل التسامح في مجال التربية المدنية. ويؤكد في الوقت نفسه على الدور الحاسم الذي يمكن للتربية على الديمقراطية والتسامح أن تلعبه في عالم شديد التنوع والتعدد.
يكتسب فن التسامح طابع الأولوية والأهمية في التربية المدنية المدرسية وفي التربية الأسرية أيضا. حيث تتمحور هذه التربية في ترسيخ المفاهيم الأساسية لمبدأ قبول الآخر والإيمان بضرورة وجوده وأهميته. فتعليم المهارات الاجتماعية التي تؤسس لفن التسامح ينبغي أن يشمل المستويات العقلانية والعاطفية والعملية. وهذا الفن يقوم على معرفة دقيقة وموضوعية لمفهوم التسامح كما ينطلق من امتلاك متقن لمهارات التسامح نفسه بوصفه فنا وطريقة ومنهجا وهذا الامتلاك للمفهوم والمهرة يمكن الأفراد بالضرورة من ممارسة التسامح الحقيقي في مجتمع متنوع يمتلك على عوامل الاختلاف والتباين. فهناك عوامل متعددة ومن أهمها ضرورة المعرفة المعمقة لمفهوم التسامح بدلالاته ومعانيه ومن ثم اكتساب القدرة على السلوك التسامحي ومن ثم امتلاك القدرة على توظيف هذه المعرفة وهذا السلوك في مواقف خلافية تتطلب ممارسة التسامح
إن إدراك معنى التسامح ودلالته يؤسس لمعرفة عملية في مجال التربية التسامحية، وهذا بدوره يضمن تطوير هذه المعرفة وتوظيفها فعليا في مستويات الحياة المختلفة. وعلى هذا الأساس يمكن التأكد من مصداقية القرار التسامحي ومشروعيته. وهذا يتطلب أن يدرك المرء نتائج ممارسته التسامحية ويقبل بنتائجها، حيث يترتب على المتسامح أن يدرك حدود وأبعاد التسامح وأن يكون قادرا في الوقت نفسه على استخدام وتوظيف وسائل أخرى وخيارات جديدة ضرورية في مختلف المواقف الحياتية التي تتطلب ممارسة تسامحية. وهنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن المعرفة بمفردها لا تشكل حافزا كافيا من أجل ممارسة التسامح في حالة صراع أو اختلاف. فهناك نسق من القدرات يمكن للإنسان أن يوظفها في توليد ممارسة تسامحية نشطة، ومنها:
– القدرة على الحوار والتواصل والاستماع إلى وجهات نظر الآخر والإيمان بحقوقه وتقدير حاجاته.
– القدرة على تقبل الرأي الآخر
– القدرة على توظيف نماذج سلوكية ديمقراطية من أجل تنظيم الخلاف واحتواء النتائج المترتبة عليه.
– توليد معرفة بالذات قائمة على أن الإنسان بتكويناته الذاتية لا يتصف بالكمال وأن مواقفه ورؤاه وتصوراته وتفسيراته معرضة للخطأ والزلل والنقص والانحياز. وأن هذا النقص والانحياز الذاتي يمكنه أن يكون في أصل الخلاف مع الآخر.
فالتربية على التسامح لا تقف عند حدود بث المعلومات والتعريف بالمهارات التي تساعد على اكتساب المعرفة العملية في مجال ممارسة التسامح، بل ومن أجل ترجمة هذه المعلومات وهذه الخبرات إلى مجال الفعل والممارسة يتوجب على التربية أن تبني إحساس كبيرا بالتسامح وتشبعا بمعانيه كما يتطلب ذلك إحساسا أصيلا بالهوية لأن امتلاك هذا الشعور بالهوية المتماسكة يمكن الفرد المعني من تقدير الآخرين وهذا التقدير يشكل ضرورة لتقدير الذات ومدخلا أساسيا من مداخل التسامح الإنساني.
فمن لا يقدر ذاته ولا يحترم نفسه لا يستطيع بالضرورة تقدير الآخرين احترامهم. وهذا التقدير للذات والآخر في الآن الواحد يشكل منطلقا جديدا لتقدير التنوع والاختلاف ذاته والنظر إلى التباين الإنساني والثقافي على أنه صورة من صور الغنى والثراء الإنساني وليس مظهرا من مظاهر التهديد والتخويف والقلق. وفي هذا التتابع يقتضي فن التسامح امتلاك المنهج المناسب لبناء الإحساس بالثقة بالنفس والذات والقدرة على التعبير عن الانطباعات الذاتية وعن الآراء والأفكار والحاجات التي تقتضيها ضرورة الوجود والحياة.
وإذا أردنا في حقيقة الأمر بناء استراتيجيات ضرورية لتعليم التسامح بطريقة فعالة فإن المربين يحتاجون بالضرورة إلى بناء مناهج تعليمية متطورة ومتخصصة لترسيخ فضيلة التسامح، حيث يمكن لهذه المناهج التعليمية أن تجعل من مهمة تعليم التسامح أمرا سهلا وميسورا وقابلا للتطبيق تربويا، حيث يمكن للمدرسين اعتمادها ببساطة في مجال عملهم التربوي لتحقيق الغايات والأهداف التربوي للتسامح. فالتعليم يحتاج بالضرورة إلى استراتيجية عملية تمكن من بناء المهارات والقدرات التسامحية عند التلامذة والطلاب والمريدين. وهذا المنهج يجب أن يتضمن تحديدا لمختلف المعايير العملية للفعاليات التطبيقية الممكنة في مجال التسامح بصورة تتصف بطابع الديمومة والاستمرار.
الأهداف التربوية للتسامح: يأخذ التسامح اليوم دورا مركزيا في دائرة الحياة الإنسانية المعاصرة نظرا لما تعرف به هذه المجتمعات من تنوع وتعدد وتباين واختلاف، والتسامح في مختلف معانيه يمثل حاجة ديمقراطية في الصميم وضرورة لا محيد عنها في المجتمعات الديمقراطية.
فالتسامح كما أسلفنا يسمح لأفراد المجتمع بالحياة المشتركة وقبول الاختلاف، كما أنه يسمح للأفراد بتقدير أنفسهم وأفعالهم ووجودهم الإنساني. وهذا يتطلب الإشارة من جديد إلى أهمية المعارف العملية للتسامح بوصفها ضرورة حيوية لتنظيم السلوك بعيدا عن كل أشكال العنف والتشنج والصراع.